فصل: تفسير الآيات (61- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (61- 62):

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}
وقول سبحانه: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}: أي: ومن المنافقين، و{يُؤْذُونَ}: لفظٌ يعمُّ أنواع إذَاءتهم له صلى الله عليه وسلم، وخص بعد ذلك مِنْ قولهم: {هُوَ أُذُنٌ}، وروي أن قائل هذه المقالة نَبْتَلُ بْنُ الحارثِ، وكان من مَرَدَةِ المنافقين، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَلِ بْنِ الحَارِثِ»، وكان ثائر الرأس، منتفشَ الشَّعْر، أحمر العينَيْن، أسْفَع الخدَّيْن، مشوَّهاً قال الحسن البصريُّ ومجاهد: قولهم: {هُوَ أُذُنٌ}: أي: يسمع معاذيرنا ويقبلها، أي: فنحن لا نُبَالِي من الوقوع فيه، وهذا تنقُّص بقلَّة الحزم، وقال ابن عبَّاس وغيره: إِنهم أرادوا بقولهم: {هُوَ أُذُنٌ}: أي: يسمع كلَّ ما ينقَلُ إِليهِ عنا، ويصغَي إِليه ويقبله، فهذا تَشَكٍّ منه عليه السلام، ومعنى {أُذُنُ}: سماع، وهذا من باب تسمية الشيْء بالشيء، إِذا كان منْهُ بسبب؛ كما يقال للرؤية: عيْن؛ وكما يقال للمسنَّة من الإِبل التي قد بَزَلَ نابها: نَاب.
وقيل: معنى الكلامِ: ذو أُذُنٍ، أَي: ذو سماع، وقيل: إِنه مشتقٌّ من قولهم: أَذِنَ إِلَى شَيْءٍ؛ إِذا استمع؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
> صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه ** وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا

وقرأ نافع: {أذن}- بسكون الذال فيهما-، وقرأ الباقون بضمِّها فيهما، وكلُّهم قرأ بالإِضافة إِلى {خير} إِلا ما رُوِيَ عن عاصمٍ، وقرأ الحسن وغيره: {قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ}- بتنوين {أُذن}، ورفع {خير}-، وهذا جار على تأويله المتقدِّم، والمعنى: من يقبل معاذيركم خيرٌ لكم، ورُوِيَتْ هذه القراءة عن عاصمٍ، ومعنى {أذن خيرٍ} على الإِضافة: أي سَمَاعُ خيرٍ وحقٍّ، و{يُؤْمِنُ بالله}: معناه: يصدِّق باللَّه، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}: قيل: معناه: ويصدِّق المؤمنين، واللام زائدة، وقيل: يقال: آمَنْتُ لك، بمعنى: صدَّقتك؛ ومنه: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17].
قال * ع *: وعندي أن هذه التي معها اللامُ في ضِمْنها بَاءٌ، فالمعنَى: ويصدِّق للمؤمنين بما يخبرونه به، وكذلك قوله: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} بِمَا نَقُوله.
* ت *: ولما كانَتْ أخبار المنافقين تصلُ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تارةً بإِخبار اللَّه له، وتارةً بإِخبار المؤمنين، وهم عدولٌ، ناسب اتصال قوله سبحانه: {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ بما قبله، ويكون التصديقُ هنا خاصًّا بهذه القضيَّة، وإِن كان ظاهر اللفْظِ عامًّا؛ إِذ من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يَزَلْ مصدِّقاً باللَّه، وقرأ جميع السبعة إِلاَّ حمزة و{رَحْمَةٌ}- بالرفع-؛ عطفاً على {أُذُن}، وقرأ حمزة وحْده: و{رَحْمَةٍ}- بالخفض-؛ عطفاً على {خَيْرٍ}، وخصَّص الرحمة للذين آمنوا؛ إِذ هم الذين فازوا ونَجْوا بالرسول عليه السلام، {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ}: يعني: المنافقين.
وقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}: التقدير عند سيبَوَيْهِ: واللَّه أحقُّ أَن يرضوه، ورسوله أحَقُّ أن يرضُوه، فحذف الخَبَر من الجملة الأولَى، لدلالة الثانية عليه.
وقيل: الضمير في يرضوه عائدٌ على المذكور؛ كما قال رُؤْبَةُ: [الرجز]
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ** كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

أي: كَأَنَّ المذكور.

.تفسير الآيات (63- 64):

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}
وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ...} الآية: {يُحَادِدِ}: معناه: يخالفُ ويشاقُّ.
وقوله سبحانه: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِم}: {يَحْذَرُ}: خبرٌ عن حال قلوبهم.
وقال الزَّجَّاج وغيره: يحذر: الأمْرُ، وإِن كان لفظه لفْظَ الخبر؛ كأنه قال: {لِيَحْذَرْ}.
وقوله سبحانه: {قُلِ استهزءوا}: لفظه لفظُ الأمر، ومعناه التهديدُ، ثم أخبر سبحانه؛ أنَّه مخرجٌ لهم ما يحذَرُونه إِلى حِينِ الوجودُ، وقد فعل ذلك تَبَارَكَ وتعالى في سورة بَرَاءَةَ، فهي تُسمَّى الفَاضِحَةَ؛ لأنها فَضَحَتِ المنافقين.

.تفسير الآيات (65- 66):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}
وقوله سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ...} الآية: نَزلَتْ على ما ذكر جماعةٌ من المفسِّرين في وديعةَ بْنِ ثابِتٍ؛ وذلك أنه مع قَوْمٍ من المنافقين كانوا يَسِيرُونَ في غزوة تَبُوكَ، فقال بعضهم: هذا يريدُ أن يَفْتَحَ قُصُور الشام، ويأخذ حصون بني الأصْفَرِ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! فوقَفهم رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا: إِنما كنا نخُوضُ وَنَلْعَب، وذكر الطبريُّ عن عبد اللَّه بن عمر؛ أنه قَالَ: رَأَيْتُ قائل هذه المقالة وديعةَ متعلِّقاً بحقب نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يماشيها، والحجارةُ تَنْكُبُه، وهو يقول: إِنما كنا نخوض ونَلُعَب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقوله: {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}، ثم حكم سبحانه عَلَيْهم بالكُفْر، فقال لهم: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم} الآية.
وقوله سبحانه: {إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ}، يريد؛ فيما ذكره المفسِّرون، رجلاً واحداً، قيل: اسمه مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَر، قاله ابنُ إِسحاق، وذكر جميعهم أنَّه استشهد باليَمَامَةِ، وقد كان تَابَ، وتسمَّى عبد الرحمن، فدعا اللَّه أنْ يَسْتَشْهِدَ، ويُجْهَلَ أمره، فكان كذلك، ولم يوجَدْ جَسَده، وكان مَخْشِيٌّ مع المنافقين الذين قالوا: إِنما كنا نخوضُ وَنَلْعَبُ، فقيل: كان منافقاً، ثم تاب توبةً صحيحةً، وقيل: كان مسلماً مُخْلِصاً إِلا أنه سمع المنافقينَ، فَضَحِكَ لهم، ولم يُنْكِرْ عليهم، فعفا اللَّه عنْه في كلا الوجْهَيْن، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الَّذين قالوا ما تقدَّم.

.تفسير الآيات (67- 68):

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}
وقوله سبحانه: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ}: يريد: في الحُكْم والمَنْزلة في الكُفْر، ولمَّا تقدَّم قبلُ: {وَمَا هُم مِّنكُمْ} [التوبة: 56] حَسُن هذه الإِخبار، و{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}: أي: عن الصدقة، وفعْلِ الخير، {نَسُواْ الله}: أَيْ: تركوه؛ حِينَ تَرَكُوا اتباع نَبيِّه وشَرْعِهِ، {فَنَسِيَهُمْ}: أي: فتركَهم حين لم يَهْدِهِمْ، والكُفَّار؛ في الآية: المُعْلِنُونَ، وقوله: {هِيَ حَسْبُهُمْ}: أي: كافيتهم.

.تفسير الآيات (69- 72):

{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
وقوله تعالى: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ}: أي: أنتم، أيها المنافقُونَ، كالذين مِنْ قبلكم كانوا أشدَّ منكم قوةً، فَعَصَوْا؛ فأهلكوا؛ فأنتم أولَى بالإِهلاك لمعصيتكم وضَعْفِكم، والخَلاَقُ: الحَظُّ من القَدْرِ والدينِ وجميعِ حال المَرْءِ، فخلاقُ المَرْء: الشيء الذي هُوَ به خليقٌ، والمعنى: عَجَّلوا حَظَّهم في دنياهم، وتركُوا الآخِرَة، فاتبعتموهم أنتُمْ، {أولئك حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة}: المعنى: وأنتم أيضاً كذلك، ويحتمل أنْ يريد ب {أولئك}: المنافقين.
وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ...} الآية: المعنى ألم يأتِ هؤلاءِ المنافقين خَبَرُ الأُمم السالفة التي عَصَتِ اللَّه؛ بتكْذيب رسله، فأهلكها، و{قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ}: نُمْرُود وأصحابه وأَتْبَاعَ دَوْلَته، {وأصحاب مَدْيَنَ} قومُ شُعَيْب، {والمؤتفكات}: أهلُ القرى الأربعةِ أو السَّبْعة التي بعث إِليهم لوطٌ عليه السلام، ومعنى {والمؤتفكات}: المنصرفَاتُ والمنْقَلِبَاتُ أُفِكَتْ فَأْتَفَكَتْ لأنها جعل عاليها سافلها، ولفظ البخاريِّ: {والمؤتفكات}: ائتفكت: انقلبت بهم الأرضُ. انتهى.
والضمير في {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم}: عائدٌ على هذه الأمم المذكورة، ثم عقَّب سبحانه بذكْر المؤمنين، وما مَنَّ به علَيْهِمْ مِنْ حُسْن الأعمال؛ ترغيباً وتنشيطاً؛ لمبادرة ما به أَمَرَ؛ لطفاً منه بعباده سبحانه، لا ربَّ غيْرُهُ، ولا خَيْر إِلا خيره.
وقوله سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصلاة}: قال ابن عباس: هي الصلوات الخمس.
قال * ع *: وبحسب هذا تكون الزَّكَاةُ هي المفروضةُ، والمَدْحُ عندي بالنوافلُ أبلغُ؛ إِذ من يقيم النوافِلَ أحْرَى بإِقامة الفَرْض، والسين في قوله: {سَيَرْحَمُهُمُ}: مُدْخِلَةٌ في الوَعْدِ مُهْلَةً؛ لتكون النفوسُ تنعم برجائه سبحانه، وفَضْلُه سبحانه زعيمٌ بالإِنجاز، وذكَر الطبريُّ في قوله تعالى: {ومساكن طَيِّبَةً}، عن الحسن أنَّه سأل عنها عِمْرَانَ بنَ حُصَيْن وأبا هريرة، فقالا: على الخَبِيرِ سَقَطَت! سَأَلْنَا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «قَصْرٌ فِي الجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فِيهِ سَبْعُونَ دَاراً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاء، في كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتاً مِنْ زُمُرُّذةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً» ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ، ويقرب منها، فاختصرتها طَلَبَ الإِيجاز.
* ت *: وتمام الحديث من الإِحياءِ، وكتاب الآجُرِّيِّ المعروف ب كتاب النصيحة، عن الحسن عن عمرانَ بن حُصَيْن وأبي هريرة، قالا: «على كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشاً مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ، وفِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدةٍ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْناً مِنَ الطَّعَامِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً، وَيُعْطَى المُؤْمِنُ فِي كُلِّ غَدَاةٍ مِنَ القُوَّةِ مَا يَأَتِي عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ»، وأما قوله سبحانه: {ورضوان مِّنَ الله أَكْبَرُ}، ففي الحديث الصحيح؛ «أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يَقُولُ لِعِبَادِهِ إِذَا استقروا فِي الجَنَّةِ: هَلْ رَضِيتُمْ؟! فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لاَ نَرْضَى، يَا رَبَّنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، رِضْوَانِي، أَرْضَى عَنْكُمْ؛ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدا»
الحديث، وقوله: {أَكْبَرُ}: يريد: أَكْبَرُ من جميعِ ما تقدَّم، ومعنى الآيةِ والحديث مُتَّفِقٌ، وقال الحسن بن أبي الحسن: وصل إِلى قلوبهم برضْوَانِ اللَّهِ مِن اللَّذَّة والسُّرور ما هو أَلَذُّ عندهم وأقرُّ لأَعينهم من كل شيء أصابُوه من لَذَّة الجَنَّة، قال الإِمام الفَخْر: وإِنما كان الرضوان أَكْبَرَ؛ لأَنه عند العارفين نَعِيمٌ رُوحَانِيٌّ، وهو أشرفُ من النعيم الجِسْمَانيِّ. انتهى. انظره في أوائل آل عمران.
قال * ع *: ويظهر أن يكون قوله تعالى: {ورضوان مِّنَ الله أَكْبَرُ} إِشارةً إِلى منازل المقرَّبين الشاربين مِنْ تسنيمٍ، والذين يَرَوْنَ كما يُرَى النَّجْمُ الغَابِرُ في الأُفُق، وجميعُ من في الجنة رَاضٍ، والمنازل مختلفةٌ، وفضْلُ اللَّه مُتَّسِع، و{الفوز}: النجاةُ والخَلاَصُ، ومن أُدْخِلَ الجنة فقد فاز، والمقرَّبونَ هم في الفوز العظيم، والعبارةُ عندي ب سرور وكمالٍ أجوَدُ من العبارة عنها ب لذة، واللَّذَّة أيضاً مستعملة في هذا.

.تفسير الآيات (73- 74):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}
وقوله سبحانه: {ياأيها النبى جاهد الكفار}: أي: بالسيف و{المنافقين}، أي: باللسان والتعنيفِ والاكفهرار في الوجْه، وبإِقامة الحدود عليهم.
قال الحَسَن: وأكثر ما كَانَتِ الحدودُ يومئذٍ تصيبُ المنافقين، ومذْهَبُ الطبريِّ؛ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم، وأما قوله: {واغلظ عَلَيْهِمْ}، فلفظةٌ عامَّة في الأفعال والأقوال، ومعنى الغِلَظِ: خَشَنُ الجانب، فهو ضدُّ قوله تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 215]، وقولُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ...} الآية، نزلَتْ في الجُلاَسِ بْنِ سُوَيْدٍ، وقوله: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ محمَّد حقًّا، لَنَحْنُ شر مِنَ الحُمُر، فسمعها منه رَبِيبُهُ أو رَجُلٌ آخر، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجاء الجُلاسُ، فَحَلَفَ باللَّه؛ مَا قالَ هذه الكلمة، فنزلَتِ الآية، فكلمة الكُفْر: هي مقالته هذه؛ لأن مضمنها قَوِيٌّ في التكذيب، قال مجاهد: وقوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}: يعني: أنَّ الجُلاَس قد كان هَمَّ بقَتْل صاحبه الذي أخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: نزلَتْ في عبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ ابن سَلُولَ، وقوله في غزوة المُرَيْسِيعِ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلاَّ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، و{لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8]، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فوقفه، فَحَلفَ أَنَّه لم يقُلْ ذلك، فنزلَتِ الآية مكذِّبة له.
* ت *: وزاد ابن العربيِّ في أحكامه قولاً ثالثاً؛ أنَّ الآية نزلَتْ في جماعة المنافقين؛ قاله الحسن، وهو الصحيحُ؛ لعموم القول ووجود المعنَى فيه، وفيهم، انتهى.
وحدَّث أبو بَكْرٍ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، قال: سُئِلَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الهَمِّ: أيؤاخَذُ به صاحِبُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ عَزْماً؛ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قوله تعالى: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ...} الآية، إِلى قوله: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ}، فجعل عليهم فيه التَّوْبَةِ، قال سفيانُ: الهَمُّ يسوِّد القلْبَ انتهى.
قال * ع *: وعلى تأويل قتادة، فالإِشارة ب {كَلِمَةَ الكفر} إِلى تمثيل ابنِ أُبَيٍّ سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ.
قال قتادة: والإِشارة ب {هَمُّواْ} إِلى قوله: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة} [المنافقون: 8].
وقال الحَسَنُ: هُمَّ المنافِقُونَ من إِظهار الشرك ومكابرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا، وقال تعالَى: {بَعْدَ إسلامهم}، ولم يقل: بعد إِيمانهم؛ لأن ذلك لم يتجاوزْ ألسنتهم.
وقوله سبحانه: {وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله...} الآية: كأَنَّ الكلامَ، وما نقموا إِلا ما حقُّه أنْ يُشْكَرَ، وذُكِرَ رسولُ اللَّه في إِغنائهم منْ حَيْثُ كَثُرَتْ أموالهم من الغنائِمِ، ورسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَبٌ في ذلك، وعلى هذا الحَدِّ قال عليه السلام للأنصارِ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ: «كُنْتُمْ عَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ»، قال العراقيُّ: {نَقَمُواْ}: أي: أنْكَرُوا.
وقال * ص *: {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله}: إِنْ وصلْتَها: مفعولُ {نَقَمُواْ}: أي: ما كرهوا إِلا إِغْنَاء اللَّه إِياهم، وقيل: هو مفعولٌ من أجله، والمفعولُ به محذوفٌ، أي: ما كرهوا الإِيمانَ إِلاَّ للإِغناء. انتهى.
ثم فتح لهم سبحانَهُ بابَ التَّوْبةِ؛ رفقاً بهم ولطفاً، فروي أن الجُلاَسَ تَابَ من النفاقِ، وقال: إِن اللَّه قَدْ تَرَكَ لي بَابَ التَّوْبَة، فاعترف وأخْلَصَ، وحَسُنت توبته.